أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه


عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ قَالَ لَيْسَ ذَاكِ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ ........ أخرجه البخاري ومسلم

لقد فقدنا غاليا رحل عن هذه الدنيا الفانية إلى الدار الآخرة رحمه الله رحمة واسعة إنه رجل من رجالات الدعوة في هذه المحافظة الشيخ إبراهيم بن صالح الدحيم الذي نحسبه أنه أحب لقاء الله فأحب الله لقائه
حيث أني كان لي الشرف بصحبته في بداية عمري عشرات الرحلات والجلسات والمخيمات وكان له الفضل بعد الله في ثباتي وتوجهي وكان لي معه كثير من المواقف التي لاتنسى
ونحمد الله أن يسر لنا مع هذا الرجل المبارك جلسة أسبوعية جماعية مع بعض الإخوة الفضلاء كل ليلة أثنين من كل أسبوع إستمرت لأكثر من أثثي عشر عاما لم تنقطع حتى وفاته رحمه الله
وقبلها كان لنا معه صحبة دائمة في الرحلات لمكة والمنطقة الجنوبية والمنطقة الشمالية
وإن لي مع هذاالداعية المبارك بعض الذكرايات التي تحثنا على القدوة الحسنة
وقد أستفدت منه بأفعاله قبل أقواله ، وكان لنا قدوة في كثير من السنن التي كان رحمه الله حريصاً على إحيائها ، ورأيت فيه القدوة الحسنة في أعمال قل من يتصف بها في هذا
الزمن أذكرها لتكون حافزاً لي ولإخواني ممن عرفوا الشيخ وأحبوه
فمن ذلك

1- قيامه لصلاة اليل
فلا أذكر على كثرة سفراته أن ترك قيام اليل وقد ينقطع بنا الطريق باليل فننام في البراري في الطريق لأبها
وإذا به يستيقظ قبل الفجر ويصلي من اليل ماشاء الله ثم يوقظنا لصلاة الفجر
وكذلك عند استقرارنا يحرص تمام الحرص على صلاة اليل جماعة أو فرادا

2-خشوعه وبكائه
كان غفر الله له كثير الخشوع والبكاء في صلاته وكان اذا أمنا بالصلاة يقول لنا( صلوا صلاة مودع)

وكان في سجوده رحمه الله يكثر من التضرع والبكاء

3-بعده عن الشهرة والثناء
في رحلة من الرحلات كنا في الباحة ووقفنا قليلا قبل الانطلاق إلى السيل لأداء العمرة وكانت جلسة مصارحة وفتح صندوق الإقتراحات والشكاوى وكان هو الذي يقراء رحمه الله الرسائل فإذا به يقراء رسالة فيها مدح وثناء وفي آخرها إنه أنت ياأباحذيفة فإذا به يجهش بالبكاء ويقول سامحك الله ثم انصرف إلى السيارة وركب وكان مغطيا وجهه وهو يبكي حتى وصلنا السيل الكبير فكانت درسا عمليا لنا بعدم البحث عن الثناء وما القبول الذي لقيه يوم جنازته والتي ضاق بها الجامع والساحات المحيطة إلا دليل بإذن الله على الصدق والإخلاص
وأظن والله أعلم أن هذا القبول لو كان وهو على قيد الحياة لفتتن من كثرة الأتباع ولكن الله سبحانه اصطفاه ونجاه من الفتن
وكان هو يحدثني بنفسه قبل وفاته بأيام أنه بلغ الأربعين ويحمد الله أن الله حفظه من كثير من الآراء والتوجهات التي حلت خلال السنوات الماضية

4- بعده عن الإختلاف والمواجهة
كان رحمه الله يحرص كثيرا على عدم المواجهة مع من يختلف معه في التوجه والمنهج ويعالج الأمور بحكمة وروية وتأن وتؤدة فلم يذكر عنه رحمه الله المصادمة كان رحمه الله منذ ان كان طالبا وهو يبذل مع قلة ذات اليد
أو المواجهه

5- بذله وسخائه
فكان يقسم مكافئة المسجد لعدة أشياء(لبيته-جمعية التوعية-المسجد-سداد الدين بعد الزواج)
وكانت معه سيارة هايلكس موديل 89 فكانت تلك السيارة لاتنقطع عن الذهاب لمكه والمدينة والمنطقه الجنوبية مئات المرات فكان باذلا رحمه الله على قلة ذات

6-حلمه وأناته
كان رحمه الله حليما عطوفا وأذكر في رحلة من الرحلات أن أحد الشباب حصل منه بعض التصرفات التي لاتليق فأخبرني لوحدي بما حصل وقال لعلك تتحدث معه وتنبهه على خطئه وتعالج الخطاء بحكمة وروية
7-جلده على الدعوة وحمله الهم
كان رحمه الله لديه صبر وتحمل وجلد في الدعوة فلا تجده إلا مهتما بأمر الشباب وتربيتهم وصلاحهم
فمع كثرة أشغاله ومسؤلياته في آخر حياته إلا أنه رحمه الله دائم التفكير وحمل هم الشباب وأستقامتهم على الطريق المستقيم

8- عمله الخفي
كثير من الأعمال الدعوية والدروس التي كان يضرب لها الفيافي والقفار بعضها أسبوعي وبعضها شهري
لم نعلم عنها إلا بعد وفاته رحمه الله فكان في جلستنا النصف شهرية يخبرنا أنه مشغول ولكن لا يفصح بالعمل الذي يشغله
هذا غيض من فيض من سيرته العطرة رحمه الله ولكنها نفثت محزون
ولئن كانت تعصف بقلمي رياح الفراق وتصارع سفينة أفكاري أمواج الوداع والأحزان فإنني لن أبخل بدعوة لهذا الداعية اللهم أغفر لأخي أبي حذيفة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واجمعنا وإياه مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا



سليمان بن عبد الله الفراج


ليلة 27/9/1429

مواقف ولطائف من ذكرياتي مع أبي حذيفة

عبدالعزيز الناصر
21/9/1429هـ
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
أحكي في هذه الأسطر بعض ذكرياتي ومواقفي الشخصية مع أبي حذيفة، حاثاً إخواني أن يكتبوا مواقفهم معه رحمه الله، فمن خلال تلك الكتابات تتجلى كثير من جوانب سيرته رحمه الله، وتتضح مواضع التميز والقدوة فيها.
عرفت أبا حذيفة رحمه الله منذ عشرين سنة حيث كان مشرفاً في جمعية التوعية الإسلامية في مدرسة تحفيظ القرآن الكريم في المذنب، وأذكر أنه كانت هناك أسرتان: أسرة حذيفة بن اليمان ويرأسها أبو حذيفة رحمه الله، وأسرة سهيل بن عمرو ويرأسها الأخ سليمان السيف رحمه الله، ولا أدري هل الكنية (أبو حذيفة) نشأت في ذلك الوقت أو قبل ذلك.
وبمناسبة الكنية فأذكر أنه قال لي مرة: استأذنت أبي رحمه الله فيها فأذن. وهذا من بره رحمه الله حيث جرت العادة أن يسمى الابن الأكبر باسم الأب.في بداية تلك السنة (1409هـ) كان أبو حذيفة يستقل سيارة داتسون غمارتين من موديلات السبعينات، ثم اشترى السيارة الهايلوكس (89) الشهيرة التي كانت مضرب المثل في كثرة الأسفار، وكانت الأمارة الظاهرة على بذل أبي حذيفة رحمه الله.
في نهاية السنة التي تليها (1410) توفي الأخ سليمان السيف رحمه الله، فكانت فاجعة، ورثاه كثير من الشباب، وكتب أبو حذيفة مرثيته، فكأني استمع إليه وهو يلقيها في المركز الصيفي بصوته المؤثر:
سأرثيك حتى أرد الجميل ** وأبكيك دوماً ولو قد أطيل
ووصف أبو حذيفة رفيق دربه بأوصاف تتعلق بالعبادة والاهتمام بالشباب ونحو ذلك مما يصلح وصفاً لأبي حذيفة نفسه:
يهمك أمر الشباب الذي * يتيه بلا قائد أو دليل
يهمك أمر الشباب الذي يسيح بتفكيره أو يميل
ولم يتخل رحمه الله عن الموعظة حتى في تلك المرثية حيث أشار في آخر أبياتها إلى الآخرة والجنة والنار.
كان من عادة الشباب في تلك المرحلة الاجتماع في أمسيات رمضانية بعد صلاة التروايح، وأذكر أني كنت في العام (1411) أصلي مع الشيخ فهد الشمسان حفظه الله في روضة الحسو ثم أذهب إلى تلك الأمسيات، وكان أبو حذيفة يحضرها.أحببت أبا حذيفة، وأذكر أني كتبت في تلك الليالي مقطوعة شعرية من أربعة أبيات أو خمسة، أتذكر منها هذين البيتين:
لقد أحبك قلبي ** في الله شوق المحب
أبا حذيفة سر في ** طريق خير وسر بي
في نهاية تلك السنة حصل حادث لأبي حذيفة مع الأخ عبدالعزيز السيف رحمه الله فكتب أبو حذيفة قصيدته:
حوادث تفزعنا كل حين ** وذكرى تهيج فينا الحنين
ويشاء الله أن تكون وفاة أبي حذيفة اليوم في حادث أيضاً، ونسأل الله له الأمن من الفزع يوم القيامة.
انتقلت إلى المعهد العلمي، وبعد سنة عادت الصلة بأبي حذيفة رحمه الله حيث شارك في الإشراف على جمعية التوعية الإسلامية لطلاب المعهد في المذنب وكان يشرف على الجمعية أخونا الحبيب عبدالرحمن الوهيد حفظه الله.
في العام (1414) خلفت أبا حذيفة رحمه الله في إمامة مسجد سهلة الجارالله، وأذكر من مواقفه الدعوية أنه صلى معي مرة وحثني على إلقاء الدروس والكلمات في المسجد، وقد كان له في ذلك المسجد نشاطات، من توزيع الأشرطة والكتيبات، وإلقاء الكلمات، وحلقة تحفيظ القرآن، ونحوها.
استمرت الصلة مع أبي حذيفة في تلك المرحلة وفي المرحلة الجامعية، وفي آخر تلك السنوات كان هناك شيء من الصلة الشخصية، فقد كانت تجمعني بأبي حذيفة رحمه الله جلسات علمية لتدارس كتاب أو لحفظ متن، وأذكر أني كنت أسمع منه أحاديث عمدة الأحكام فقد كان يحفظها رحمه الله من ضمن محفوظاته المتعددة التي أشرفها كتاب الله عز وجل حيث حفظه في وقت مبكر.
لم يكن أبو حذيفة يبحث عن الأشياء جاهزة، بل كان يعد أموره بنفسه، وأذكر توشياته وإضافاته بقلمه لنواقص نسخته من عمدة الأحكام، ومرة رأيت معه كتاباً جمع فيه عدة متون مرشحة للحفظ، وطبعت لتكون ضمن برامج التوعية الإسلامية حيث كان مشرفاً لها في سنيه الأخيرة.
ومرة اجتمعنا –أنا وبعض الإخوة- معه في درس في كتاب منهج السالكين لابن سعدي، وأشار علينا بأن نجلد الكتاب وندخل بين كل صفحتين صفحة بيضاء، حتى نكتب فيها تعليقاتنا.
نعم لقد كان من صفاته رحمه الله الجد والجلد، وأذكر أنه كان يضع قصاصات وأبياتاً شعرية أمام ناظره في السيارة (على الطبلون) ليسهل عليه حفظها من جراء مداومة النظر وتكراره لها.
أبو حذيفة نسيج وحده، جمعتنا به رحلات ومخيمات وجلسات.
أتذكر زواجه رحمه الله وقد كان متبسطاً مع الشباب في وليمة العشاء التي صنعها آنذاك رحمه الله.
أتذكر رحلة معه إلى أبها ثم مكة، وأتذكر في إحدى جلساتها أنه كان يقرأ قصاصات من كتابة أعضاء الرحلة، وأتذكره وهو يقرأ إحداها وكانت عن الموت.لقد كان ذكر الموت حاضراً في ذهنه رحمه الله، ولا أنسى تلك المرة التي رافقته فيها ليخطب في إحدى القرى –قبل أن يكون خطيباً لجامع ابن رخيص-، وكانت خطبته عن الموت، وأتذكر عبارته ونحن مقبلون على الجامع: عسى الله أن ينفع بها.
أتذكر رحلة معه إلى الحج، وقد كان ألقى فيها درساً عن عبدالله بن المبارك، وما زالت الأوراق التي قيدتها معه في ذلك الدرس موجودة لدي، وأتذكره عشية عرفة وكأني أراه وقد مدّ يديه شديداً إلى السماء يلهج بالدعاء، أسأل الله أن يجعلنا وإياه ممن قيل لهم: انصرفوا مغفوراً لكم.
أتذكر بعض المخيمات، وصيحاته في نهايتها:
قالوا لنا حان الوداع ** حان الفراق مع الضياع
هل بعد هذا نفترق؟ ** لا لا لن نفترق
أما الآن فقد حان لنا أن نفترق يا أبا حذيفة لكنه فراق نرجو أن يتلوه اجتماع في جنات النعيم لا يكون بعده فراق.

مواقف متفرقة:
1. أسفار من أجل الدعوة:رافقت أبا حذيفة أكثر من مرة في سفر إلى البجادية ليتابع أمور الدعوة التي كان لها فيها هناك غرس مبارك، وأذكر أنه قال لي: جلست مدة أتعرف على الوضع قبل أن أبدأ العمل، وهذا من حكمته رحمه الله.
2. سيارة داعية:كنت مع أبي حذيفة على سيارته الكرسيدا، وقد زار بعض الإخوة هناك، فسلم عليه أحد الشباب، وقال: ما شاء الله عليك يا أبا حذيفة، حتى سيارتك داعية!، وكان يشير إلى لوحة السيارة المكونة من الحروف الثلاثة (ادع).
3. لما التفت إلي:كنت معه في طريق فتحدثنا ساعة، ثم صمتنا، وإذا به يلتفت إلي رحمه الله، ويقول: عظني.ولهذا الموقف أثره، حيث طلب الموعظة ممن هو دونه، كما يتجلى فيه اغتنامه لوقت الطريق الذي جرت العادة لدى كثير منا أن يقطع بالتسلية.
4. الشوق إلى لقاء الله:في إحدى ليالي رمضان قبل أكثر من خمس عشرة سنة، حدثنا ونحن مجموعة من الشباب، فذكر أنه كان في المسجد، فكأنه -رحمه الله- مع الأجواء الإيمانية: أجواء الصلاة والقراءة والذكر اشتاقت نفسه إلى لقاء الله، قال: فأحببت أن يقبضني الله على هذه الحال، قال: ثم كشفت لي ذنوبي ومعاصيّ، فرجوت أن يمهلني الله لأتوب وأستدرك، أو نحو ذلك.رحمه الله، كان جسمه بيننا، وكانت روحه معلقة بالعرش.
5. زيارات:لما باعدت بيننا الأماكن لم ينقطع الاتصال بأبي حذيفة رحمه الله رغم تباعد فتراته، وكنت أحياناً أصلي معه الجمعة، وزرته في معتكفه عاماً ماضياً، وكان معي أخي، فقلت له: سيعتكف معك أخي العام القادم إن شاء الله، وفي تلك الزيارة أو غيرها أطلعني على مسودات بعض مقالاته رحمه الله.
6. المكالمة الأخيرة:اتصل بي رحمه الله في أمر دعوي، يتعلق بتزويد مكتبة جامع ابن رخيص ببعض الكتب، ثم اتصل بي بعدها يتابع الموضوع، وقد كان يحثني رحمه الله على احتساب الأجر، وأذكر أني داعبته في بداية المكالمة الأخيرة قائلاً له: حيا الله الغالي إمام ابن رخيص! فضحك رحمه الله.

هذه بعض المواقف التي حصلت لي معه رحمه الله، وفي بعض ما سمعت عنه من الإخوة ما هو أعجب، ولعل أولئك الإخوة يروونها بأنفسهم. والحمد لله وصلى الله وسلم على رسوله ومصطفاه.

شيخي إبراهيم الدحيم كما عرفته

عبدالعزيز بن عبدالله العقيلي
17 / رمضان / 1429هـ
طالما استجديت قلمي أن يكتب ما ينفع الله به فيكون ذخراً لي عند الله , لكنه كان يأبى علي محتجاً علي بقصوري عن مدارك البلاغة والبيان , غير أني –اليوم- ولهول الفاجعة وعظم المصيبة أطوعه أسيراً بين أناملي ليكتب شيئا يسيرا عن حياة رجل وإحسان إنسان ....
ولد الشيخ إبراهيم بن صالح الدحيم -رحمه الله –في عام 1389هـ وتوفي بعد أن أتم الأربعين في ليلة الخامس عشر من شهر رمضان عام 1429هـ ,
كنت أرى الشيخ إبراهيم – رحمه الله-في بلدي هو غفار البلد و دوسه وخزرجه وأوسه وبدره وشمسه ثم هوى كل ذلك في لحظة ليضم القبر جسده الطاهر , فإنا لله وإنا إليه راجعون
بدأت حفظ لقرآن على يديه وثلاثة من أشقائي وعدد من أبناء الحي والشيخ آنذاك – لم يتجاوز العشرين من عمره- واستمر اتصالنا المباشر به طيلة ثمان سنين , صبر الشيخ فيها علينا حين كان منا لهو الصبيان وعبثهم وصبر علينا فيها حين كان منا عناد من ناهزوا الاحتلام وضجرهم فجزاه الله عنا خيرا .
كان الشيخ – رحمه الله- خلال تعليمه لنا يضيق وقته عن الجلوس لنا وقت العصر , فأمرنا أن نأتيه بعد صلاة الفجر,فضاق وقته فأمرنا أن نأتيه بعد صلاة الظهر فضاق وقته فأمرنا أن نأتيه بعد صلاة المغرب فضاق وقته فأمرنا أن نأتيه بعد العشاء فلما ضاق وقته أمرنا أن نأتيه الساعة العاشرة صباحاً ثم استقر أمرنا على أن نأتيه بعد العصر ثم شاء الله أن ننتقل إلى حي آخر فكان يأتي إلينا هناك حتى أتممت على يديه حفظ القرآن العظيم , وأي أحد أمن علي بعد الوالدين من رجل جمع الله القرآن في صدري على يديه فجزاه الله عني خير الجزاء.
كان الشيخ يعضنا ويذكرنا بين الحين والآخر فكان من مواعظه التي ألقاها بعد الصلاة على جماعة المسجد كلمة عن " الموت " ولازلت أذكره وهو يرتجز :
يــا من بدنياه اشتغــل قد غـــره طول الأمـل
المـــوت يأتي بغتــــة والقبر صندوق العمل

فأخذتها أنا وأخوتي وجعلنا نرددها حتى حفظها أهلنا .....
كان الشيخ – رحمه الله- يحدث بين الأذان والإقامة , وكان يحثنا على الجلوس بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ويخبرنا عن عظيم الأجر في ذلك .
كان يحبب إلينا العلماء ويكثر من الحديث عنهم خاصة عن الشيخ عبد العزيز بن باز- رحمه الله- وألقى درساً مؤثراً في المسجد عام 1412هـ عن الشيخ العلامة عبد الرحمن السعدي- رحمه الله- فاشتقت لقراءة سيرته فأهداني كتابا عن الشيخ السعدي لازلت أحتفظ به .
كان الشيخ إبراهيم – رحمه الله – يصلي بنا في المسجد فيطيل الصلاة فعتب عليه كبار السن , فخفف الصلاة مراعاة لهم واجتنابا للخلاف ولا أعلم انه ترك الاعتكاف منذ عشرين سنة إلا عامين أو ثلاثة فإذا لم يعتكف خرج في بعض ليالي العشر إلى السوق يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر , وحج الشيخ إبراهيم- رحمه الله- كثيراً سنوات متتابعة ولم يقطعه عن الحج إلا الضرورة كمرض أمه وكنت مع أمه وهي(عمتي) رحمها الله يوماً وهي تحدثني عن بره وإحسانه بها وهي تبتسم ابتسامة الرضى عنه وتردد(إبراهيم ... إبراهيم )

ضعفاء ومساكين أعرفهم قصدوا الشيخ إبراهيم – رحمه الله – فكان بعد الله هو حبالهم وعصيهم ونبالهم وقسيهم, به يتقون المحن ويستظلون من حر الظلم وشدائد الزمن, وهو يصبرهم ويعينهم بكل ما يستطيع .
رأيت إقبال الشيخ رحمه الله على ربه ورأيت حب الناس له وإقبالهم فذكرت قول ابن القيم رحمه الله : (وأول الأمر وآخره هو الإقبال على الله بكلية القلب ودوام الدعاء والتضرع فلو وفى العبد هذا المقام حقه لرأى العجب العجيب من فضل ربه وبره ودفاعه عنه وإقباله بقلوب عباده إليه وإسكان الرحمة والمودة في قلوبهم )

فالسلام عليك – أبا حذيفة – يوم ولدت ويوم مت ويوم تبعث حياً , ونور الله قبرك ورفع قدرك كما رفعت للعلم والدعوة صرحا....
ولسوف يذكرك العباد في محاريبهم, ولسوف يذكرك العلماء- يوما- في دروسهم ومحاضراتهم , سوف يذكرك المستغفرون بالأسحار سوف يذكرك من علمتهم القرآن كلما تلوه آناء الليل وأطراف النهار .

كنت أراك شيخي المبارك – فأذكر الله تعالى واليوم أذكرك بعد موتك فأذكر قول الله تعالى ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه .......... الآية)
أذكرك اليوم فأذكر آية كنت تقرؤها في بداية الخطبة الأولى من كل جمعة ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين ).
أذكرك اليوم فأحسبك ممن قال الله فيهم ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين).

اللهم اغفر لشيخي أبي حذيفة وارفع درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين ولا تفتنا بعده يا رب العالمين .

أبو حذيفة لم يمت!! كلمة وفاء في حق فارس من فرسان الدعوة

د.عمر بن عبد الله المقبل
(نشرت في موقع المسلم)
في ليلة اكتمل فيها بدر السماء هوى بدرٌ من بدور الأرض، وغيّب الموت داعيةً من خيرة الدعاة الصامتين، الصادقين، الأخفياء، الأولياء ـ أحسبه كذلك والله حسيبه ولا أزكيه على الله ـ: إنه رفيق الدرب، وزميلي في حلقة القرآن، وشريك من شركاء الدعوة والمنهج، الشيخ المسدد، والمربي الفاضل: إبراهيم بن صالح بن علي الدحيم، وذلك ليلة الخامس عشر من شهر رمضان من عام ألف وأربعمائة وتسعة وعشرين. كنتُ قرأت عن بعض السلف أنه بلغه موتُ أحد إخوانه، فقال: والله لكأن ركناً من أركاني قد انهدّ! ولعمر الله! ما كنت إلا ذلك الرجل حين جاءني الخبر:
طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ *** فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ حتى إذا لم يَدَعْ لي صِدْقُهُ أمَلاً *** شَرِقْتُ بالدّمعِ حتى كادَ يشرَقُ بيوما كنتُ أظن أنني سأرثيه، خاصة في هذه السن، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها. إنني أكتب هذه الأحرف وأنا أتجرع مرارة المصيبة، وأكابد لوعة الفراق، وألوذ بالصبر، وأتعزى بعزاء الله:{ومن يؤمن بالله يهد قلبه}، وأرجو موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما في البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ـ يقول الله تعالى: (ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة). وليست هذه الأحرف ترجمة للشيخ، ولا حديثاً عن سيرته، فهذا له وقته ـ إن شاء الله ـ بعد اكتمال ما يتعلق بتلك السيرة الطيبة، ولكنها كلمات وفاء عاجلة، لعل أحداً يقرأ هذه الأحرف فيرفع كفيه ليدعو لهذا الشيخ الذي نذر نفسه للدعوة، ومات وهو يعيش همها، بل مات وهو يمارسها! لقد كانت وفاته ـ وهو متجه إلى بيت الله الحرام ومعه مجموعة من الطلاب الناشئين في طريق الخير والهداية ـ ترجمةً عملية لهمّ الدعوة الذي يملأ جوانح قلبه، إنها تطبيق عملي لكلمات سطرها ـ رحمه الله ـ بحبره، حين صدر رسالته (فارس الدعوة) ـ وهو يصف هذا الفارس ـ بقوله: "هو فارس لا يترجل، أَلِفَ صهوة الخيل فلا غير، عشق القمم فما عاد يعرف للأودية سبيلاً ولا إليها طريقاً.. سارت هموم الناس في أفلاك شهواتهم، وسار نجم همه في أفلاك دعوته, فهو آخذ بزمام فرسه، طائر على جناح السرعة، قد نصب خيمته في صحراء التائهين، وأوقد ناره عندها كي يراه المنقطعون فيقصدونه, فيستنقذ منهم غافلاً ويعلم فيهم جاهلاً ويرشد فيهم حائرًا" انتهى كلامه رحمه الله. إذن هي ومضات سريعة فحسب، وإطلالة خاطفة على حياة هذا الداعية المبارك، والمربي الفاضل، وإلا فسيرته تحتمل مجلداً لطيفاً، خصوصاً أن تجربته في الدعوة وخبرته فيها تقترب من العشرين عاماً. لقد عرفتُ الشيخ ـ رحمه الله ـ قبل أكثر من عشرين عاماً، بحكم ما بيننا من مصاهرة، وعرفته زميلاً في المرحلة المتوسطة، في حلقة القرآن عند شيخنا محمد أويس الهزاوري ـ حفظه الله ـ ثم زميلاً في جمعية التوعية الإسلامية بصحبة شيخنا المربي القدير فضيلة الشيخ عبدالكريم الجارالله ـ متعنا الله بحياته على حسن عمل ـ ثم جمعتنا بعض المحاضن التربوية، وكثيرٌ من الرحلات التربوية مع بعض المربين الكرام ـ جزاهم الله عنا أحسن الجزاء ـ ثم جمعنا طريق الطلب في كلية الشريعة وأصول الدين(فرع جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالقصيم سابقاً)، ثم افترقت الأبدان ـ مع اتصال القلوب والأرواح ـ فتعين في عدة قرى ومدن، ولم يترك مكاناً تعيّن فيه إلا وترك فيه بصمةً واضحة، فاسأل ـ إن شئتَ ـ أهل البجادية، وبعض قرى عقلة الصقور، وغيرها إلى أن حطّ رحاله في بلده ومسقط رأسه (محافظة المذنب) فكان هذا تحولاً نوعياً في برامجه العلمية والدعوية، وانطلاقة متميزة في طريق الدعوة، علماً أنه استمر في تواصله مع طلابه ومحبيه في تلك المدن والقرى التي غرس فيها غرسه. عذراً، فلستُ أترجم لشقيق روحي ـ فهذا له أوانه لاحقاً إن شاء الله ـ ولكن أردتُ بهذا الإجمال الشديد، أن ألج إلى الحديث عن أبرز معالم التميز في حياته ـ رحمه الله ـ إذ هي بيتُ القصيد في هذه العجالة، وذلك فيما يلي: ـ سلامة صدره لإخوانه، فهو لا يحمل إلا الحب والمودة، بل لو أردته أن يحمل غير ذلك ما قدر، ولا يجد في نفسه خصاصة، ولا حسداً، بل ـ والله ـ إنه لأعظم الناس فرحاً بما يكتبه الله على يد أحد إخوانه من خير في العلم والدعوة. ـ حدبه على الدعوة، ونشاطه الكبير فيها، وحرقته على هداية الناس ـ والشباب خصوصاً ـ وأكثر ما تراه ضائق الصدر إذا علم بانتكاسةِ شابٍ أو انحرافِ مهتدٍ، وكان كثيراً ما يردد: نسأل الله الثبات، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، خصوصاً إذا جاء الحديث عن بعض الشباب الذين أصابتهم لوثة من شبهة أو شهوة. وهذا الموضوع ـ أعني بذله لنفسه في الدعوة ـ يحتاج إلى بسط يليق بسيرته الحافلة ـ ليس هذا مقامه ـ، ولكني أشهد الله أنني لا أعرف أحداً من أصحابنا وفي بلدنا ـ على مرّ ثلاثين سنة ماضية ـ من يجتهدُ جهدَه، ولو شئتَ لقلتَ فصدقتَ: إن العين لم تخطئ هذا الرجل في أي ميدان من ميادين الدعوة المتاحة له: خطيباً، أو معلماً في درس العلم، أو مواسياً للمحتاج، أو مشاركاً في لجنة خيرية، أو منشطٍ دعوي. ـ احتسابه على المنكرات بالحكمة والموعظة الحسنة، ووقوفه مع الإخوة الذين يتواصلون معه بهذا الخصوص. ـ حرصهُ على الإخلاص، وإخفاء ما يستطيع من أعماله، لذا عرف بين إخوانه بأنه داعية خفيٌّ ـ ولا أزكيه على الله ـ ولعل جنازته كشفت عن شيء من ذلك، والأيام حبلى وستظهر بعض سيرته وخفايا أعماله، من خلال ما يجتمع لديّ من أخبار طلابه ومحبيه المقربين منه، خصوصاً في سنواته الأخيرة. ـ صبره على تربية الشباب وتحمله مشاق هذا النوع من التربية، ولا يدرك هذا إلا من جرّبه وعاناه. لقد كان الشيخ ـ رحمه الله ـ طيلة العقدين الماضيين حريصاً ـ مع بعض إخوانه ـ على الحج بالشباب الذين لم يسبق لهم أداء الفريضة، ولم تكن تلك الرحلة مجرد رحلة لأداء الفريضة فحسب، بل كانت رحلةً إيمانية، تربوية، تتجلى فيها معاشرة الشيخ الطيبة، وطيب أرومته، ولين عريكته، رحمه الله. وأعرف عنه يقيناً لا أشك فيه، أنه كان ـ حتى آخر لحظة من حياته ـ يصرف من ماله كثيراً في سبيل الدعوة منذ أن وضع قدمه على هذا الطريق منذ عشرين عاماً تقريباً، مع قلة ذات يده في أوائل أمره، وبالذات قبل أن يستقر في سلك التعليم، بل كتب إليّ بعض المقربين أن سياراته التي كان يملكها إلى وقت قريب (هايلكس م 99) كانت تذهب إلى مكة والمدينة وغيرها من المناطق بدونه أكثر من ذهابها وهو يقودها بنفسه، فأي بذلٍ هذا؟! فضلاً عن صور أخرى لعلها تذكر في الترجمة المطولة. ـ تواضعه الجم، وهضمه لنفسه في ذات الله تعالى، ظهر هذا لي بيقين في مواقف شتى، لعل الترجمة المطولة تتسع لذكر شيءٍ من ذلك ـ إن شاء الله ـ. ـ زهده، ومعرفته بحقيقة الدنيا، فالشهرة لم تكن تعني له شيئاً أبداً، ولم يكن يبالي بكثير من المظاهر التي تستهوي الكثيرين من لداته وأترابه. هذه الصفات والمعالم ـ وغيرها مما قد يخفى عليّ ـ أكسبته حبّ عشيرته، وزملائه في العمل وشركائه في الدعوة، وأهل بلده وغيرهم ممن عرفوه داعيةً، ناصحاً، باذلاً. ووالله إني لا أحصي كم هي رسائل التعازي، والبريد الالكتروني، والمكالمات التي وصلتني تعزيني فيه ـ رحمة الله عليه ـ من أناس أعرفهم، وأكثرهم لا أعرفهم. وسبحان الله! منذ أن جاءني خبر نعيه، وهذه الآية تلوح أمام ناظري: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب/23]، وليس هذا بعجيب، بل الأعجب أن كثيراً من الزملاء من طلاب العلم ذكروا لي هذا الشعور، فتعجبت من هذا التوارد! ولعل جنازته المهيبة ـ التي لا أذكر أنني رأيت مثلها في بلدنا ـ كشفتْ لكل الحاضرين شيئاً من حب الناس له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ـ كما في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه ـ: "أنتم شهداء الله في الأرض"، حتى إن كثيراً ـ الذين جاءوا من خارج المحافظة ـ، تعجبوا من ظهور التفجع على أوجه الجميع ـ كما حدثني بذلك بعضهم ـ، وما هذا إلا قرينة على ما وضعه الله لهذا الشيخ المبارك من القبول والمحبة، وإنا لنرجو ـ إن شاء الله ـ أن تكون علامة قبول في السماء! الله أكبر.. إنها المحبة والمودة التي لا يمكن أن تشترى، ولا أن يجامل الناس فيها، ولذا اشتهرت كلمة الإمام أحمد: قولوا لأهل البدع، بيننا وبينكم يوم الجنائز! ومن أراد أن يطلع على شيء من مكانة الشيخ عند محبيه والذين عرفوه، فليقرأ التعليقات التي كتبت على آخر مقالٍ له، والذي نشر في موقع المسلم بعنوان: "صوم مودع" والذي نشر في 3/9/1429هـ.
بكيتك يا أُخَيَّ بدمع عيني *** فلم يغن البكاء عليك شيئاً وكانت في حياتك لي عظات *** فأنت اليومَ أوعظَ منك حياًومما يسلي النفس ـ وهي تودع حبيبها ـ أن الشيخ أبا حذيفة ـ رحمه الله ـ مات جسده، وبقي بدعوته، وآثاره الحسنة، وبصماته المتميزة. ومن جميل صنع الله له، أن بادر ـ رحمه الله ـ إلى طبعِ جملةٍ من المقالات في كتاب أسماه: [أبواب في العلم والدعوة والتربية] وقد نشرته مكتبة طيبة، فضلاً عن عدد مبارك من المقالات التي نشرت في مجلة البيان ـ كان آخرها الذي نشر في مجلة البيان بعنوان: (معالم في طريق التوبة) في عدد رمضان الحالي ـ، ومقالاتٍ في موقع المسلم، وغيرها ذلك كثير. كما أن للشيخ ـ رحمه الله ـ عدداً من الطلاب الذين أفادوا من علمه، وزرع فيهم مع العلم: الأدب والخلق، يرجى أن يخرج الله منهم عشرات يحملون همّ الدعوة إلى الله كما حمّلهم شيخهم هذا الهم قولاً وعملاً. وإني لأرجو الله ـ وهو أهلُ الجود والكرم، وأنه عند حسن ظن عبده به ـ أن يكون لأبي حذيفة ـ رحمه الله ـ نصيبٌ مما تمناه وعبّر عنه في رسالته "أوراق دعوية" حيث قال: "فلله! كم للدعاة من أجر يتتابع عليهم في حياتهم وبعد مماتهم؟! يأتون يوم القيامة، فإذا حسنات كالجبال لايذكرون أنهم فعلوها، لكنهم كانوا السبب فيها" اهـ. نعم أبا حذيفة.. لن تنساك عقلة الصقور.. ولا البجادية.. ولا بلدك التي كنت باراً بها تمام البر، فوالله لو نطقت جميعة تحفيظ القرآن، أو معهد معلمات القرآن، والمراكز الصيفية لشهدت لك بأنك كنت عضواً فاعلاً فيها. وأهمس ـ في ختام هذه الأسطر ـ في آذان إخوتي من محبي الشيخ من زملاء وطلاب، وأذكرهم بأن من عظمة هذا الدين أنه لم يربط أتباعه، ولم يعلق انتصاره بأشخاص مهما عظمت مكانتهم، حتى لو كان ذلك الشخص هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}[آل عمران/144]. يقول العلامة السعدي ـ رحمه الله ـ معلقاً على هذه الآية: (وفي هذه الآية الكريمة إرشادٌ من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة لا يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه، فقدُ رئيس ولو عظم، وما ذاك إلا بالاستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه، إذا فقد أحدهم قام به غيره، وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين الله، والجهاد عنه، بحسب الإمكان، لا يكون لهم قصد في رئيس دون رئيس، فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم، وتستقيم أمورهم)انتهى كلامه رحمه الله. أرجو أن يكون في هذه الأسطر ما يكشف شيئاً من سيرة صديقنا وحبيبنا وأخينا الداعية الصادق، والمربي الفاضل أبي حذيفة: إبراهيم بن صالح الدحيم رحمه الله، ولعل الله تعالى أن ينسأ في الأجل لكتابة مطولة كما وعدت بذلك في أول المقال. اللهم اغفر لأبي حذيفة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه. سلام عليك أبا حذيفة يوم ولدت، وسلام عليك يوم مت، وسلام عليك يوم تبعث حياً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيد الدعاة والمصلحين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

صوم مودع

لو كشف لك من علم الغيب عن خفي أجلك، فأخبرت أن ما تدركه من رمضان هذه السنة هو آخر رمضان لك في الحياة..ثم أنت لا تدري أتتمه أم تنقطع بالموت دونه، لو قيل لك ذلك... كم سيكون الخير فيك؟!
وكم ستجهد في استغلال أيامه ولياليه، وتحقيق الإخلاص والصدق فيه؟!
وكم هي أعمال البر التي سنقوم بها؟!
إن الشعور بالوداع وتضايق الفرص يبعث في النفس من الاهتمام والجد والتوجه شيئاً لا يبعثه التسويف وطول الأمل.. جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله علمني و أوجز. فقال: إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع)) (رواه بن ماجة وحسنه الألباني 4171).
تصور أنك تصلي صلاة تنتظر بعدها الموت، كم ستخشع فيها ويحضر قلبك؟!
وكم ستتمها وتحقق الإخلاص فيها؟!. لماذا لا نستحضر روح الوداع في عباداتنا كلها؟! ونستشعر أننا نصوم رمضان هذه السنة صوم مودع؟ وننظر إلى إقبالة رمضان هذه السنة على أنها إقبالة ملوح بالوداع..

كم كنت تعرف ممن صام في سلف * * * من بين أهل وجيران وإخـوان
أفناهم الموت واستقباك بعدهــم * * * حياً فما أقرب القاصي من الداني
ومعجب بثياب العيد يقطــعها * * * فأصبحت في غدٍ أثواب أكفان

فكم من مستقبل يوماً لا يكمله، ومؤملاً لغدٍ لا يدركه، وقد روي في الحديث (افعلوا الخير دهركم وتعرضوا لنفحات رحمة الله فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده) (نداء الربان 1/166).
فتعال معي أيها الحبيب نستحضر أحاسيس الوداع، ولوعة الفراق، علَّنا نودع بها دعة أتلفت أيامنا، وكسلاً أذهب أعوامنا، وأمانٍ أضعت أيماننا.. تعال معي: نخص هذا الشهر الكريم بمزيد عناية وكأنا نصومه صوم مودع، دعنا نخرجه من إلف العادة المستحكمة، إلى روح العبادة المشرقة.. والله يتولانا وإياك بعونه ورعايته..
نصوم رمضان في كل عام وهم أكثرنا أن يبرئ الذمة ويؤدي الفريضة... فليكن همنا هذا العام تحقيق معنى الصيام (إيماناً واحتساباً)) ليغفر لنا ما تقدم من ذنوبنا.. وكم هي كثيرة.
نحرص كل عام على ختم القرآن في شهر القرآن مرات عديدة.. فلتكن إحدى ختمات هذا العام ختمة تدبر وتأمل بنية إقامة حدوده قبل سرد حروفه.
نتنقل للقيام بين المساجد كل عام طلباً لصوت الأجمل، والوقت الأخصر.. فليكن سعينا هذا العام في طلب الصلاة الأكمل..
نخص رمضان بمزيد من التوسعة على النفس والأهل من أطايب الدنيا، فليتسع ذلك للتوسعة عليهم بأغذية الأرواح والأنفس. من خلال جلسات الإيمان التي تشرق بها أركان البيت.
إذا أدخلنا السرور على أسرنا بهذا وذاك فلنوسع الدائرة هذا العام فندخل السرور على أسر أخرى.. أسرتها الحاجة وكبلتها الأعباء.
نتصدق كل عام بقصد مساعدة المحتاجين، لنجعل قصدنا هذا العام بهذه المساعدة مساعدة أنفسنا بتخليصها من نار الخطيئة بصدقة تطفئ غضب الرب.
نحرص على العمرة في رمضان لفضلها.. فلنجعلها هذا العام لعمرنا كله نغسل بها ما مضى من ذنوب.. نطوف بها في أفياء الرحمة إذ قد يكون آخر العهد بالبيت الطواف.

نحرص على اكتساب العمل النافع في رمضان، فليكن هذا النفع متعدياً للغير بكتاب يُهدي أو نصيحة تُسدي أو إصلاحٍ بين الناس.
لنفسك من دعائك النصيب الأوفى، فلنتخل عن هذا (البخل) في شهر الكرم، فملايين المسلمين في حاجة إلى نصيب من دعائك الذي تؤمن عليه الملائكة وتقول ولك بمثل، فيبقى نصيبك محفوظ.
الجود محمود في رمضان وأنت من أهله، فليمتد جودك إلى الإحسان لمن أساء عليك، ووصل من قطعك (وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزا).
لنكف عن الاعتكاف إلى الناس، ولنكتف بالعكوف مع النفس لمحاسبتها، فربما يفجأنا الموت فنحاسب داخل القبر قبل أن نتمكن من محاسبة أنفسنا ونحن أحياء (أن تقول نفس يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله).
نحب التعبد بتفطير الصائمين، فلنجرد هذه العبادة من حب المحمدة أو دفع المذمة، فذلك رياء لا يثب صاحبه بل يصيب مقاتله.
تفطير الصائمين من جوعة البطن مستحب مندوب، ولكن إشباع جياع القلوب فرض مطلوب، فليكن لنا جهد في هذا مع جهدنا في ذلك. فكم ضامئ من الموعظة يحتاج السقيا، وكم غارق في الشهوات يحتاج طوق النجاة
تصف قدميك مع مصلين لا تعرفهم... فهلا تعرفت على ما يوحد قلبك معهم ويضم صفك إليهم، فإن تسوية الصفوف خلف الإمام ما جُعلت إلا لتوحيد القلوب مع الإيمان؟
لنا ولك أعداء، فانتصر عليهم بالدعاء إن كانوا كافرين، وانتصف منهم بالدعاء إن كانوا مسلمين فكم من دعاء حول العداء إلى ولاء. والله يتولى الصالحين
في رمضان، يذكرك الضعفاء أنفسهم على نواصي الطرقات وعند أبواب المساجد، فلا تنس المستضعفين الذي استغنوا عن السؤال، أو قطع طريقهم إليك رتل الدبابات وأزيز الطائرات، أو أعياهم الجوع في المجاهل والأحراش الموحشة.
يتوارد على سمعك في كل عام ما يعرفك بقدر رمضان، فاجعل هم هذا العام أن تتعامل مع رمضان بمقدار قدره.
قدر رمضان يتضاعف ليلة القدر، فهل قدَّرت في نفسك أنها ربما فاتتك في أعوام خالية؟!
فاغتنمها اليوم فقد لا تأتي بها ليال تالية.
إذا ودعت رمضان.. أو ودعك.. فاستحفظه ربك، واستودعه عملك.. فإن لم تجد ما تودعه فذاك لخيبة نفسك، وذهاب عمرك (والمحروم من حرم)..
هذه خطرات على أبواب هذا الموسم العظيم، فهلا عقدنا العزم على أن يكون الشهر لنا (مغتسل بارد وشراب) نغسل فيه أدران الذنوب فنتوب، ونشرب من مواعظه ما تحيا به القلوب، فليكن بداية جديدة لنا ومحطة للعودة الصادقة إلى ربنا. فها قد اقتربت أيام رمضان وهبت رياحه فاغتنمها. فيا غيوب الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا همم المسلمين أسرعي، فطوبي لمن أجاب فأصاب، وويل لمن طرد عن الباب وما أناب، اللهم سر بنا في سَرْب النجابة، ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لأدعيتنا أبواب الإجابة،
اللهم بارك لنا في رمضان، وأعنا على صيامه وقيامه، واجعلنا من عتقائك من النيران.
نشر هذا المقال بالموقع يوم 3/9/1428 هـ

ماقيل في الشيخ رحمه الله

مع المحبرة إلى المقبرة

مع المحبرة إلى المقبرة
إبراهيم بن صالح الدحيم
جامع ابن خريص
ملخص الخطبة
1- طلب العلم ليس له وقت محدد ولا عمر معين. 2- فضل العلم وطالبه. 3- بعض الأمور المعينة على تحصيل العلم. 4- بعض الأمور المانعة من تحصيل العلم. 5- الحث على استغلال أوقات الإجازة بما يفيد.
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله.رأى رجلٌ مع الإمام أحمد محبرة فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين، ومعك المَحبَرَةُ تحملها فقال: مع المَحبَرة إلى المقبرة. وجاء عن محمد بن إسماعيل الصائغ أنه قال: كنت في إحدى سَفَرَاتي ببغداد، فمرّ بنا أحمد بن حنبل وهو يَعْدُو ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحيي؟! إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟! فقال: إلى الموت.عليك سلام الله ما كنت جاهلاً فقد كنت ذا عقل وكنت حصيفًاالإمام أحمد يعدو ونحن لا نعدو، وإن عدَونا أو غَدونا فإلى الدنيا، وشتان بين غدوٍّ وغدوٍّ، فكل الناس يغدو، فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها.سارت مشرِّقة وسِرتُ مغرِّبًا شتان بين مشرِّق ومغرِّبالإمام أحمد لا يعرف وقتًا محدَّدًا للطلب، ولا عمرًا معيَّنًا للتعلّم، فنداوَة حبره تغذّي قبرَه، وهو مع المحبرة إلى المقبرة. أما نحن فلا نفهم إلا أن فترةَ التعلّم محدودة، ولا نفهِم أولادنا إلا ذاك، فهي (شدّة وتزول)، ثم يعلو الكتابَ التّرابُ.نشأ ناشئ الفتيان فينا يعدّ الأيامَ عدًّا، وينتظر ساعةَ الفراق السعيدة على خلاف ما تكون عليه ساعات الفراق، حتى إذا تمت الأيام وانتهت الدراسة ودّع كتابّه ومزّق أوراقه، ولربما لفرطِ الفرحة ألقاها أمام المدرسة أو بين عجلات السيارات دون أن يراعي لها حرمةً أو يقدر لها قدرًا، وقد رأيت يومًا بعض كتب الدين وغيرها وقد تتابعت عليها عجلات السيارات وهي تستغيث ولا مغيث. إن مثل هذه التصرفات تدلّ على فراغ روحيّ وفراغٍ تربويّ يحتاج إلى مزيد عناية ومعالجة.إن العلم عبادة، والله لم يجعل لعبادة المؤمن حدًّا في الدنيا إلا الموت، وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ [الحجر:99]، ومع المحبرة إلى المقبرة.العلماء ورثة الأنبياء، والملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضًى بما يصنع، وإنّ العالم يستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم عل العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب.العلم شرف الدهر ومجد العصر وحياة الفكر، ذهب الملك بحرّاسه، وبقيت بركة العلم في أنفاسه، العلم أعلى من المال، وأهيبُ من الرجال، وهو طريق الكمال، قال سفيان الثوري: "لا أعلم بعد النبوة أفضل من العلم". طلب العلم أفضل من نوافل العبادات، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (العلم أفضل من القائم الساجد).فهذا فضل العلم فعليك به، وكن مع المحبرة إلى المقبرة.إذا توجهت لطلب العلم فداوم السير وإياك والانقطاع، فقليل دائم خير من كثير منقطع، وإياك والكسل، فالجبال لا يصعد إليها مُقعَد، والقمم لا يعتليها ضعيف.وما كل هاوٍ للجميل بفاعلٍ ولا كلّ فعّالٍ له بمتمِّمفَطَلِّق الكسل، وزاول العمل، واحمل المحبرة إلى المقبرة.إياك واحتقار النفس والحكم عليها مسبقًا بالفشل، فأنت تملك قدرات عظيمة، لكنّ سوّاف الزمن وأحاديث الغفلة قد أخفتها، فاجتهد واعلم أن كثرة تحريك الماء تزيد في النقاء، وأن الذاكرة تولد مع المذاكرة، ودواء النسيان مداومة النظر في الكتب، جاء عن أبي هلال العسكري رحمه الله أنه قال: "كان الحفظ يتعذر عليّ حين ابتدأت أطلبه، ثم عوّدت نفسي إلى أن حفظت قصيدة رؤبة في ليلة، وهي قريب من مائتي بيت"، وقال أيضًا: "حكي لي عن بعض المشايخ أنه قال: رأيت في بعض قرى النّبط فتى فصيح اللهجة حسن البيان، فسألته عن سبب فصاحته مع لُكْنَة أهل جلدته فقال: كنت أعمد في كل يوم إلى خمسين ورقة من كتب الجاحظ، فأرفع بها صوتي في قراءتها، فما مرّ بي إلا زمان قصير حتى صرت إلى ما ترى"، فبادرْ ولا تيأسْ، وداوم قرع الباب، فعن قريب يفتح، والزم المحبرة إلى المقبرة.اعلم أن الظروف لا تتهيأ لأحد، واليوم أنت أهيأ منك غدًا، فبادِر قبل أن تبادَر، وإياك والتسويف فإنه من جنود إبليس، والمنى رأس أموال المفاليس. التسويف أنشودة الفاشلين وشعار الجاهلية ونغمة الكسالى وعذر البطالين، وَلَوْ أَرَادُواْ ٱلْخُرُوجَ لاعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة:46].إذا كان يؤذيك حر الصيف ويبس الخريف وبرد الشتاءويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي: متى؟!فمن مكانك حدّد، ومن أوانك قرّر، وخذ المحبرة إلى المقبرة.اعلم أن تحصيل العلم لا بدّ له من هجر اللذات وبذل الوسع وصدق الطلب وصحة النية، فالمكارم منوطة بالمكاره، والسعادة لا يُعبر إليها إلا على جسر المشقة، ولا ينال العلم براحة الجسم.لولا المشقة ساد الناس كلهم الجودُ يفقر والإقدام قتّالقال إبراهيم الحربي رحمه الله: "أجمع عقلاء كلّ أمة أن النعيم لا يدرك بالنعيم، ومن آثر الراحة فاتته الراحة". فألزم نفسك الجادة، واصبر على المشقة، ومع المحبرة إلى المقبرة.لا تستنكف من طلب العلم على غير المرموقين، أو أن تستفيد من غير المشهورين، فهذا نوع غرور وتكبر، والعلم لا يناله مستحٍ ولا متكبر، يقول الغزالي رحمه الله: "فالاستنكاف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين هو عين الحماقة، فإن العلم سبب النجاة والسعادة، ومن يطلب مهربًا من سبعٍ ضارٍ يفترسه لم يفرّق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل، وقد روي: الحكمة ضالة، المؤمن حيثما وجدها فليجمعها إليه" اهـ.ثم بعد هذا العرض والاستحثاث فإن أمامنا إجازةً كبيرة، فيها ما يزيد عن مائة يوم، لو رتب الواحد نفسه لربما حفظ من القرآن جزءًا ليس باليسير، أو أتم شيئًا من المتون العلمية، والعاقل لا يعدم الحيلة، والمطلوب هو قضاء الإجازة بما يفيد علمًا أو دعوة، أو حتى فيما يعود عليه بالنفع في دنياه، وأن لا تذهب عليه الأيام دون فائدة، فإن الفراغ رأس كل بلاء، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إني أكره أن أرى الرجل سبهللاً ليس في أمر دينه ولا دنياه).وإن على الآباء أن يرعوا مسؤوليتهم تجاه أولادهم، وأن يأخذوا كل سبب من أجل قضاء أوقات أولادهم بما ينفع، وها هي حلق التحفيظ والدروس والدورات العلمية والمراكز الصيفية قد فتحت أبوابها تنادي طلابها. وحين تعوز الأب الوسيلة فلا يقعد مكتوف اليدين، بل عليه أن يستعين بأهل الخبرة، فما ندم من استشار.يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6].
المصدر

خطبة العيد لعام 1428هـ

خطبة العيد لعام 1428هـ
إبراهيم بن صالح الدحيم

الحمد لله كثيراً والله اكبر كبيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا..الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كلما صام صائم وأفطر، الله أكبر كلما لاح صباح عيد وأسفر، الله أكبر كلما لمع برق وأمطر، الله أكبر ما هلل مسلم وكبر.وتاب تائب واستغفر.الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. الحمد لله الذي أتم إحسانه على المؤمنين وأكمل، وكفى بحسن تأييده من على كرمه عول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالعز والبقاء فلا ينقض ملكه ولا يتحول، له الأسماء الحسنى والصفات العلى وقد خاب من ألحد في أسمائه وعطل. وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله أفضل نبي أكرم مرسل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ثم أما بعد أيها المسلمون: فاتقوا الله - سبحانه وتعالى - وداوموا شكره والزموا نهجه واثبتوا على طريق طاعته تفلحوا... الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

• مضت أيام الصيام، وانقضت ليالي القيام، فيا سَعّد من وصل فَوُصِل، وعمل فقُبِل، ويابُئس من ضيع وانقطع، وأهمل وانخدع.. لو كانت الدنيا تعود لكان لي فيها عِوض غداً يُكشف المستور، ويُقرأ المسطور، عندها يفرح المؤمنون، ويتحسر المقصرون (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). فيا من وفَّى في رمضان على أحسن حال لا تغير في شوال.. فرب الشهور واحد، والرقيب شاهد. إن الغبن كل الغبن أن تبني بيتاً فتخربه بيدك، وتغزل غزل فتنقضه بعد جهدك.. (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً)(النحل: 92). فالعيد بقاء على الخير وثبات على الطاعة. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
• العيد تميز واستغناء، تميز بالدين الذي أكمله الله لنا وارتضاه، واستغناء بالشرع المطهر عن عادات الشعوب البائدة وتقاليد الأمم الماضية: (قد أبدلكما الله بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر) (هذا عيدنا). أعيادنا لا تؤكد الغفلة، بل هي اتصال وطاعة، نفحة قدسية ورحمة إلـهية. نفتتحه بالتكبير والذكر والصلاة (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون)[البقرة 185].

• أعيادنا أهل الإسلام سماوية، ليست طينية أرضية، لسنا بولادة عظيم أو شفائه من مرض أو تربعه على عرش الملك نجعل ذلك اليوم عيداً.. أعيادنا يشترك في تحقيق مناسباتها عامة المسلمين، ولذا تكون الفرحة به فرحة عامة حقيقية. إن عبادة الصيام ومغالبة الأهواء والشهوات في هذا الشهر يعتبر نصراً شارك في القيام به كل مسلم، وفرح بتحقيقه كل مؤمن فهو حقيق بأن يفرح به (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا)، لا عيد عندنا للأم ولا للزيتون ولا للحُب ولا للتحرير ولا للوطن، هما عيدان يعودان في السنة لا ثالث لهما (الفطر والأضحى) عن أنس قال: قدم رسول الله - صلى الله عليه و سلم - المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟! قالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية. فقال - صلى الله عليه و سلم - " إن الله قد أبدلكما بهما خيراً منهما يوم الأضحى ويوم الفطر "

• العيد ترويح للنفس لا استراحة عن الدين ولا تخلص من تكاليفه، فالعبد دائم الخدمة لسيده، وعليه: فالترويح الذي يزاوله المسلم في العيد لا يصح أن يخرج به عن حدود الشرع فيقع في الأشر والبطر والغفلة والضياع. بل يكون ترويحه باللهو المباح والتوسيع على الأولاد والأهل فيه. فإذا بليت بمن يتساقط شَرَهَاًً على المعاصي والآثام فاحمد الله على العافية، وذكره بلطف وإحسان، فإن أعرض فاعتزله وما يعمل (ولا تحض مع الخائضين) وكن عن اللغو من المعرضين، ولا تكثِّر سواد الغافلين، ففي الأرض مراغماً كثيراً وسعة. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

• صلة الأرحام كمال في الدين، وطول في العمر، وسعة في الرزق. العيد فرصة للتلاحم، وتسوية للعلاقات، ونبذ للخلافات، وقطع العداوات المستشرية. النفوس الكريمة ترتفع عن الأحقاد والعداوات، وتتجاوز التوافه والهنات، ترى الدنيا واسعة لسعة نفوسها. لما عفوت ولم أحقد على أحدٍ أرحت نفسي من هم العداوات (فمن عفا وأصلح فأجره على الله)، ومن مد يده للصلح والعفو فهو خير الطرفين (وخيرهم الذي يبدأ بالسلام). تسامح ولا تستوف حقك كله وأبق فلم يستوف قط كريم إنه لابد لتحسين العلاقات من نفوس كبيرة تتسع لهضم البغضاء وقضم العداوات. (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى: 37). أطفئ لهيب العداوة ببرد الصدقة فإن ذلك من أفضل البر، فعن أم كلثوم بنت عقبة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال: (أفضل الصدقة: الصدقة على ذي الرحم الكاشح) رواه أحمد وغيره أما النفوس الضيقة والقلوب المريضة فقد ضاق عندها الفضاء فاختارت أن تستنشق الهواء من ثقب إبره.. تئن دون مرض، وتصيح دون وجع، تُفَصِّل المجمل، وتأول المبهم، وتبحث في المخبوء، الناس عنها في غفلة وهي بهم في شغل، تتمتم بهمِّ الماضي، وألم المستقبل قد حَرمت نفسها عيشة الحاضر الهنية، والنومة الطيبة الرضية. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

• إن من المظاهر المبهجة، والأمور الحسنة ما سلكه غالب الناس من اجتماعات تجمع الأقربين في الأعياد، تؤكد تواصلهم، وتزيد من ترابطهم، يسُدُّون فيها حاجة ضعيفهم، ويعيشون فيها همَّ قريبهم، فكان من المهم والمهم جداً أن يفاد منها في النذارة والتذكير (وأنذر عشيرتك الأقربين) وأن يحفظ هدفها ويعلن، فهو الصلة والإحسان، وأن نحذر من عاصف يأخذ بها إلى التعصب المقيت، فيوزن الناس ويقاسون ويحبون ويبغضون على حسب قربهم. يكفي من معرفة الأنساب ما نصل به الأرحام (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباًً وقبائل لتعارفوا) ولم يقل: لتناحروا ولا لتفاخروا، فالفخر يأتي به الجدُّ لا الجَد.
ليس الفتى من يقول كان أبي *** إن الفتى من يقول هاأنذا
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد

• يعاني الناس من غلاء في الأسعار مع قلت ذات اليد وهو نوع من الابتلاء الذي أخبر الله عنه بقوله: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأنفس والثمرات وبشر الصابرين). وحتى نتجاوز هذه الأزمة بسلام فعلينا بالصبر كما أوصى الله (وبشر الصابرين)، ثم علينا مراعاة عدة أمور لا تتأتي كذلك إلا بالصبر. الصبر الذي نغالب به نفوسنا على القصد وحسن التدبير أو ما يعبر عنه بـ(ترشيد الاستهلاك). وقد روي أنه (ما عال من اقتصد). فما كنا نشتريه قبل لغير حاجة يجب أن لا نشتريه اليوم إلا لحاجه. إننا في الغالب- حين نمسك بالمرتب ننسى أنه مصروف شهر كاملٍ لا عشرة أيام، وننسى أن هناك استحقاقت مرتبطة به كإيجار البيت وفواتير الاستهلاك وغيرها. إن مقولة (انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب) في فهم الناس لها نظر، فالغيب ليس توكأت لعاجز، والأمور معلقة بأسبابها، والسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، والعاقل يقيس ماله على حاله، ويمد رجليه على قدر لحافه.. لا خير فيمن لم يكن عاقلاً يمد رجليه على قدره علينا ونحن نعيش الغلاء أن نشعر بالمحتاجين الذين لا يسألون الناس إلحافاً، وأن نتذكر آلم أمة لنا في أفريقيا وغيرها عجزة أن تسد جوعتها، مات أطفالها بين يديها. ثم علينا أن نعلم أن ما أصابنا فبذنب أحدثناه(وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير)، وإلا فخزائن الله ملأ لا تغيضها النفقة (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يفسقون)، إن الفسق والبطر والإسراف وعصيان الله يقلب النعم نقماً، والسعة ضيقاً. (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

• إن من أخطر ما تواجهه الأمة اليوم ما يمارس عليها لإفساد دينها على أيدي رواد التغريب واللبرله، بنشر التدين الأعرج في المجتمع، كمحاولة لتقويض الدين الصحيح من الداخل. ففي الوقت الذي انكشفت فيه أقنعة المستغربين العلمانيين فظهرت عمالتهم للغرب وبان عوارهم فلفضتهم الأمة تخرُج علينا نابتة جديدة من(الدعاة الجدد) خلطوا في المعارف والعلوم، وقاموا يقرؤون الشريعة بعين الهوى لا بعين الدليل، فميعوا الإسلام وهذبوه حتى يصح أن يلتقي مع الآخر، ويتناسب مع روح الحضارة [زعموا]، فولَّدوا لنا (الإسلام التسامحي)، و(التدين الجديد) الذي ارتضع من الإرجاء ما انتشرت به الحرمة. خرجوا على القنوات وفي الصحف والمجلات وعلى مواقع الإنترنت وباسم الدين- يقلبون الفتوى، جعلوا الدين معاملة فحسب، ورضوا من الناس أن يبقوا على مظاهرهم- حتى لو خالفت الدين- ما دام القلب نظيفاً، بل ربما برروا لهم البقاء، فالدين عندهم قشر ولباب فإذا سلم اللب فالقشر تذروه الرياح، بحثوا في الأقوال الضعيفة والمرجوحة فألفوا للناس ديناً جديداً خلا من العزيمة وافتقد للقوة، فهذا يبيح الربا، وذاك يجمع في حل الغناء، وثالث يجيز حلق اللحى، ورابع يخفف ضرر الاختلاط ويرى جواز خدمة المرأة للأضياف، وخامس يجيز للمرأة الطيب الهادىء بين الرجال الأجانب.. في قائمة لا تقف عند حد وكأنما هم في سباق على الغرائب والمستهجنات.. ففي إحدى القنوات الفضائية المنتسبة للإسلام يقام برنامج عن الأزياء التي يمكن أن تظهر بها المرأة المسلمة في الشارع والعمل، ويوضع لذلك مقدمة بعارضات أزياء "إسلاميات"!! وشر البلية ما يضحك. وهذه إحدى رموز -المتدينات الجدد- وهي مذيعة شهيرة لبرنامج ديني، سردت بموقع برامجها على الإنترنت قائمة طويلة من المغنين والممثلين العرب والهوليوديين والأفلام والأغاني الأمريكية. عدا ما يعرض في البرامج التلفزيونية التي يقوم عليها شباب من الجنسين يتناولوا مسائل دينية ونفسية وتربوية من منظور "إسلامي"، مع تبادل الحوار والطرفة والجلسة "الأخوية"! كبرنامج "يللا شباب" على الـM.B.C. وفي مقابل هذا الترخص الرخيص يقومون بصبغ المخالفات الواقعة في المجتمع بالصبغة الدينية وإعطاءها نوعاً من الشرعية، وينادون بثقافة التسامح مع الكفار فضلا عن المبتدعة، وهو تسامح يتجاوز الثوابت الشرعية، مع إغفال جوانب التوحيد والولاء والبراء. ثم يرمون علماء الشريعة الربانيين بالتشدد والتنطع كمحاولة للإسقاط وتفريغ المنطقة منهم. لقد خدموا العدو بصنيعهم هذا -شعروا أم لم يشعروا فلم نر لهم يوم سب النبي - صلى الله عليه و سلم - قائمة، بل مارسوا دور التهدئة وتبريد الأعصاب. إننا بهذا لا نغلق باب الخلاف المعتبر ولا نمنع من الاجتهاد ونوجب على الناس قولاً واحد لا يصح لهم سواه، لكنَّا نمنع من العبث بالشريعة ومعارضة الدليل بالرأي والهوى. وليس كل خلاف جاء معتبراً إلا خلاف له حظ من النظر فعلى المسلم أن يطلب سلامة دينه، وأن يأخذه عمن يثق بعلمه وأمانته (انظروا عمن تأخذون دينكم)، فليس كلُ متحدث باسم الدين يؤخذ عنه، فاطلب من الدين ما ارتضاه الله لك وما ترجوا به السلامة يوم القيامة لا أن تسلم في الدنيا. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد

• ما أكثر النذر التي يخوف الله بها عباده(وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً) ففي العام الماضي تحدثنا عن الزلازل المتتابعة التي ضربت الأرض من أقصاها إلى أقصاها وما خلفته من الدمار وما لحق الناس معها من البلاء والضر، وهذا العام كثرت الأعاصير فعصفت بالناس وما إعصار [جونو] الذي ضرب عُمان عنَّا ببعيد، والأشد من ذلك أعاصير اجتاحت النفوس فقست لها القلوب وغلفت، حتى وجدت متسعاً للغفلة وقت الكارثة(وما تغن الآيات والنذر عن قومٍ لا يؤمنون). الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد

• الأجواء ملتهبة، والأحداث ساخنة، وهي تتسارع بدرجة تُعجز العاقل عن التأمل فيها، والبليغَ عن تصويرها.. ففي فلسطين المكلومة، الجرح النزيف لا يزال من عقود، ذهبت على ثرى فلسطين دماء، ومزقت على ظهرها أشلاء، حتى إذا انفتح لها من الأمل نافذ أغلقتها يد العميل بحجة الزكام، علة عليلة وعمالة قديمه، لولا هي ما بقي اليهود طويلاً (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس). واليوم وقد مشت معهم (حماس) إلى آخر الطريق، وقعوا معها في الحرجٍ، فالسلطة لم تفصل ليلبسها الإسلاميون. عندها كشفوا عن أقنعتهم، ونزعوا جلود الضأن عن ظهورهم، فكادوا لها كيدا وضربوا عليها حصار، فاشتد على إخواننا البلاء، وعظمت بهم اللأواء، وبقوا دون مغيث، ليسوا حزب (قرنق) فيعجل غوثهم، ولا رهبان (بورما) فيسمع نداءهم. لكن الله لهم غياث إذا اعتمدوا عليه وهو المولى (فنعم المولى ونعم النصير). الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد والعراق بِرَكُ من دماء (قد كثر فيها الهرج والمرج) لا يغيب عن سمعك وبصر كل يوم عدد من الضحايا، حتى أصبحت كابوساً على أهلها، صاروا بين المطرقة والسندان، بين عنجهية المحتل الظالم، وحنق الرافضي الغاشم، وهم ينتظرون من الله الفرج (ألا إن نصر الله قريب). لقد أثبتت الأحداث المتتالية إن في فلسطين أو في العراق أو في أفغانستان بما لا يدع مجالاً للشك أن حقوق الإنسان التي رسمتها القرارات ووقعتها الاتفاقيات هي لحفظ حقوق الإنسان الكافر المستعمر كي تحمي غروره (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر). إن لنا في كل بقعة لنا جرح، لكن عندنا من الأمل ما نخفف به الألم، والأيام دول، والليالي عبر، وكلٌ شيء بقضاء وقدر. والأرض لله يورثها من يشاء (والعاقبة للمتقين). الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد الكل يرصد الأحداث، ينظر من طرف خفي وظاهر، يراقب الوضع المتوتر بين أيران وأمريكا، والناس في التحليل على رأيين، رأي يرى أنها مجرد تبادل أدوار، وأنها فصول من مسرحية، معللاً ذلك بتقاطع المصالح الأمريكية الإيرانية في أفغانستان والعراق. ورأي آخر يقرأ طبيعة النظام الأمريكي الأهوج والمتسرع فيرى حرباً غشوماً قد انعقد غمامها. والحرب شرّ والعافية نعمة، جنبنا الله شر الحروب، وأدام علينا الأمن والإيمان والعافية. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها الشباب المبارك لسنا نريد أن نطفئ فيكم الحماسة لأمتكم والغيرة على دينك بل نباركها لكم، لكنا نقول إنَّ صِحَّت الحماس لا يلزم منه صحة الاستجابة، فالتصرفات اللامسؤولة، واستعجال الخطوات، والاستجابة للطيش ليست من ناتج الحماس المتزن، فالحكمة مطلوبة واتهام المرء لرأيه من كمال عقله، واستشارت ذوي العقول من أهل الدين والورع أحرى بالصواب. إنه ليس من مقصود الجهاد في الإسلام أن تقتل النفس على أي وجه كان، ومن طلبه تخليصاًً لنفسه من هموم الدنيا فقد أبعد النجعة وأخطأ الطريق.. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.

• على الزوج أن يتقي الله في زوجته فيحسن إليها ولا يظلمها أو يضربها، وحين يدوس الزوج كرامة الزوجة وتفعل الزوجة كذلك فهو أذان بسقوط البيت وتقويض خيامه وذهاب قيمته التربوية ودوره المرتقب. لابد أن يبنى البيت على المودة والرحمة (وجعل بينكم مودة ورحمة) وعلى العفو والصفح (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) وحين يرى أحد الزوجين من الآخر ما يسوؤه فليتذكر محاسنه وجوانب الكمال فيه فقد صح عنه - صلى الله عليه و سلم - أنه قال: (لا يفرك مؤمناً مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها آخر) رواه مسلم

• معاشر النساء أجبن نداء الله لكن حيث قال (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) (الأحزاب: 33) إن الأصل في المرأة قرارها في البيت، إذ هي نور أركانه وسكن أرجائه، والخروج من البيت أمر طارئ لا يكون إلا لحاجة.

• عليكِ بخدمة الزوج والقيام معه بالطاعة، أخرج ابن سعد قال: دخلت أيم العرب (أم سلمة) على سيد المسلمين - صلى الله عليه و سلم - أول العشاء عروساً، وقامت من آخر الليل تطحن (حياة الصحابة 2/566). وعليك برعاية أولاده وحفظ ماله ومتاعه فلك بذلك عظيم الثواب ففي الحديث عنه - صلى الله عليه و سلم - أنه قال: (أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راضٍ دخلت الجنة) رواه الترمذي وقال حديث حسن. وعن أبي هريرة - صلى الله عليه و سلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: (إذا صلت المرأة خمسها وصامت فرضها، وحصنت فرجها، وأطاعت زوجها قيل لها: ادخلي من أي أبواب الجنة شئت) رواه الخمسة وصححه الألباني. وروى الطبراني في معجمه وصححه الألباني أن النبي - صلى الله عليه و سلم - قال ألا أخبركم بنسائكم في الجنة (يعني من نساء الدنيا) قلنا بلى يا رسول الله قال: الولود الودود التي إذا غضبت أو أسيء لها إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى) إنها النفس الطيبة والروح الزكية لا التثني الأعوج، وفي الحديث: (اثنان لا تجاوز صلاتهما رؤسهما: عبد آبق من مواليه حتى يرجع، وامرأة عصت زوجها، حتى ترجع)صحيح الجامع الصغير..

• لا تكلفي زوجك من النفقة مالا يطيق ولا ترهقيه من أمره عسرا ففي الحديث عنه - صلى الله عليه و سلم -: (أن أول ما هلك بنو إسرائيل أن امرأة الفقير كانت تكلِّفُهُ من الثياب أو الصيغ - أو قال: من الصبغة - ما تكلف امرأة الغني) (السلسلة الصحيحة 591) فأنت شريكته في الحياة فقاسميه الهم وشاطريه الأوجاع.

• احذري الخضوع في مخاطبة الرجال، ومخالطتهم وإبداء الزينة لهم، ابتعدي عن ذلك في أماكن العبادة كمكة وفي الأعياد والجمع فضلاً عن الأسواق والحدائق العامة.

• احذري مشابهة الكافرات والماجنات بحجة متابعة الموضة (فمن تشبه بقوم فهو منهم) وفي الحديث الصحيح (صنفان من أمتي لم أرهما قط نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها)

• حافظي على عفافك وحجابك وحيائك (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (الأحزاب59). احذري دعوات التغريب وسهام التضليل التي يقذف بها الأعداء. احذري تمييع الحجاب، فالحجاب عبادة وليس عادة، الحجاب ستر وليس زينة. ليست العباءة الضيقة ولا الشفافة ولا مطرزة الأكمام حجاباً شرعياً (بل هي فتنة ولكن أكثر الناس لا يعلمون)

• أيتها المسلمة.. الله لحكمته جعل القوامة بيد الرجل (الرجال قوَّامُون على الناس) فكان ذلك تكليفاً له بهذه الأمانة، من أجل رعاية البيت وحمايته وحفظه والنفقة عليه. وإن التمرد على القوامة والنشوز دون حق شرعي يعتبر من أعظم الذنوب التي يعاقب الله عليها. ففي الصحيحين عن أبي هريرة - صلى الله عليه و سلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: (إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح). المرأة الصالحة تكون عوناً لزوجها على البر والصلة، تعينه على إكرام أهله وتفرح بصلته لهم، وتربي أولادها على الإحسان إليهم، تحتسب الثواب على الطعام الذي تصنعه، ترد السوء بالمعروف والخطأ بالعفو لأن معدنها طيب وسجيتها مباركة فهي تنفق مما تملك. حذار من إفساد أحد الزوجين على الآخر والمشي بينهم بالنميمة فإن ذلك من مكر الشيطان وفي الحديث الصحيح (من خبب زوجة أو مملوكاً فليس منا) و(لا يدخل الجنة نمام)وكل فساد يقع بسبب الطلاق الناتج عن التحريش بين الزوجين فعلى الجاني إثم ذلك ولا يظلم ربك أحد. الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد

• في الحديث عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه و سلم -: " اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه عن الجمعة، وإنا مجمِّعون)رواه أبو داود(1073) وغيره. فمن صلى معنا صلاتنا هذه جاز له أن ترك الجمعة وأن يصلي في بيته أو مزرعته ظهراً في وقتها فرداً أو جماعة، وإن صلى الجمعة مع الناس فهو أفضل وأكمل وقد جمع لنفسه خيراً، ومن فاتته العيد ولم يدرك منه إلا الخطبة لزمته صلاة الجمعة مع الناس في المسجد الجامع.

• لا بأس أن يهنئ بعضكم بعضاً في العيد لورود ذلك عن الصحابة - رضي الله عنهم - (نداء الريان 2/376)، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه و سلم - مخالفة الطريق في العيد فعودوا من غير الطريق التي قدمتم فيها اقتداءً بنبيكم محمد - صلى الله عليه و سلم - (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا.
المصدر

مقال : اللهم أعني يا معين



اللهم أعني يا معين ..!!
إبراهيم بن صالح الدحيم
أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بيد معاذ بن جبل رضي الله عنه, وبعبارة مشفق وحديث محب, قال له صلى الله عليه وسلم: يا معاذ, والله إني لأحبك, فلا تدعنَّ دبر كل صلاة أن تقول:( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) . لقد كانت وصية عظيمة تتابع السلف عليها أخذاً ووصية لمن خلف لأهميتها, إذ أوصى بها معاذ الصنابحي, وأوصى الصنابحي أبا عبد الرحمن, وأوصى أبو عبد الرحمن عقبة, وأوصى عقبة حيوة, وأوصى حيوة أبا عبد الرحمن المقرئ, وأوصى أبو عبد الرحمن المقرئ بشر بن موسى, وأوصى بشر بن موسى محمد بن أحمد بن حسن, قال أبو نعيم: وأوصاني به محمد بن الحسن, وأنا أوصيكم به . وصية جامعة,كأنما يريد النبي صلى الله عليه وسلم من خلالها أن يوجه المسلم إلى مسيس حاجته للعون الإلهي والمدد الرباني للقيام بالعبادات وأداء الطاعات, حتى لا يَقْصُرَ قاصرٌ طلب العون من الله على أشغال الدنيا وأعباءها.. إن هذا التعليم النبوي كما أنه يشي بحاجة العبادة والطاعة إلى العون والمدد الإلهي, فهو يحمل في ثناياه الإعلان عن العجز والضعف البشري أمام القيام بشيء من حق الله تعالى. إن العبد مهما بلغ من قوة, ومهما اجتمع له من نشاط فهو عاجز عن مواصلة الطريق إلى الله إلا بالعون الذي يتنزل عليه من ربه, فلا يغتر بجهده ولا يدلي بعمله. قال ابن القيم رحمه الله: كثيراً ما كنت اسمع شيخ الإسلام يقول:( إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تدفع الرياء (وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تدفع الكبرياء . إن أعظم الكرامة أن يأتيك مدد ربك, الذي يدفعك لمزيد القرب منه, فتدخل في عبادته - ليس نشيطاً فحسب – بل مشتاقاً لها تجد أنسك فيها, كما كان نبيك صلى الله عليه وسلم يقول عن الصلاة: أرحنا بها يابلال .. قال شيخ الإسلام رحمه الله: (فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه, ويزيده مما يقربه إليه ويرفع به درجته ) . أما حين لا يكون عون الله, وإنما يوكل العبد إلى نفسه, فإنه يوكل إلى ضعف وعجز وخور ومهانة. لا تكلني ياذا الجلال إلى نفسي *** يوماً فالعجز مركز نفسي إن تكلني ياذا الجلالِ تعاليت *** إلى من سواك جنٍّ وإنس فإلى عَوْزَةٍ وعجز تكلني *** وإلى ضيعة تكلني وتعسي حين لا يعان العبد فإنه يقعد به العجز والكسل عن الكمالات, وتتطامن نفسه إلى الدون, ولا يكون منه شيء نافع, بل تذهب أيامه ولياليه دون شيء يذكر, قال شيخ الإسلام: وكل عملٍ لا يعين الله العبد عليه فإنه لا يكون ولا يقع, فما لا يكون به لا يكون, وما لا يكون له لا يدوم ولا ينفع, فلذلك أمر العبد أن يقول ( إياك تعبد وإياك نستعين ) في كل صلاة. نحتاج العون من الله على الذكر وإلا أصاب الألسن خرس عما ينفع, نحتاج العون من الله على الشكر وإلا بطرت النعم ثم محقت, نحتاج العون من الله على حسن العبادة وإلا تحولت عبادتنا إلى صورة لا معنى لها وإلى مظهر بلا مخبر, فصارت وبالاً على العبد لا له. إن العبد حين لا يعان على الذكر تُغَلِّفه الغفلة, فيترك القرآن أياماً لا يتلوه, وربما أتى إلى المسجد مبكراً – لحاجة – فعجزت يده أن تمتد للمصحف الذي لا يبعد عنه غير متر واحد, ويعجز لسانه أو يغفل عن تسبيحٍ هو من أخف الأعمال وأيسرها على اللسان وأثقلها في الميزان, في حين لا يعجز عن ترديد الأغاني, ولا ينقطع صوته عن الحديث في المجالس بما لا فائدة منه!. وحين لا يعان العبد على الشكر فإنه لا يرى النعم, ولا يحس بقيمتها, فلذلك يبطرها, فلا عين تُحْفظ عن حرام, ولا لسان يحفظ عن رديء الكلام, ولا رجل تمشي إلى صلاة, ولا يدٌ تمتد بالصدقة والذكر أو ترفع للدعاء .. وحين لا يعان على حسن العبادة فأنه يأتيه ما يشغله عن تحسينها والعناية بها, قال الطيبي: وحسن العبادة المطلوب منه التجرد عما يشغله عن الله . فينشغل ذهنه بما يوهنه, فإن قام إلى الصلاة نقرها نقر الغراب, والتفت فيها التفات الثعلب, وانتهي منها لا يدري ما قرأ, فخرج من صلاته لم يكتب له منها إلا ما عقل, واقتصرت نفسه على الفريضة – على ضعف فيها – فإن صلى نافلة لعظيم الفضل واجتماع الناس عليها – كالترويح – فإنه يعجز عن الاستمرار إلى آخر الشهر, أو يطلب من يأتي بها على عجل.. وكذا يخرج من رمضان قد أمسك عن الطعام والشراب, ليس له من صيامه إلا صورته( الجوع والعطش ) أما حسن الصيام وحلاوة الليالي والأيام فلم يدخلها لأنه لم يركب مركب العون. وكذا يأتي من حجه لم يجن غير (التعب والنصب) قد اقتصر على أقل القليل من المطلوب وشغل عن مراتب الكمال بالكلام.. فلله كم وقت يقطع على محروم من التوفيق والعون.. لا تكلني إلى سواك وجُد لي *** بالأماني, والأمن من بَلْوَاكا اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين
المصدر